لم يكن ليحصل هذا التمادي الاسرائيلي في استعمال القوة المفرطة بحق المدنيين في غزة، وتنفيذ الاغتيالات السياسية في لبنان وعدد من دول العالم، لولا التراخي الاميركي المقصود والمستمر منذ بدء المجازر في غزة بعد عملية «طوفان الأقصى»، وصولاً الى استهداف ضاحية بيروت الجنوبية مرّتين، واغتيال اسماعيل هنية في طهران، عدا عن استهداف المدنيين في جنوب لبنان.
استخدمت اسرائيل في حربها على غزة ولبنان وحتى في سوريا، كل المحرّمات الدولية، محميةً بالفيتو الاميركي اولاً الذي طالما رفض إدانتها في مجلس الامن، ومحمية بترسانة السلاح الاميركي الثقيل والتدميري، ومحمية بالقرار السياسي الكبير القائم على غضّ النظر عن كل ممارساتها العدوانية، تحت عنوان يستخدمه كل كبار المسؤولين والمستشارين والموفدين الاميركيين بمن فيهم آموس هوكشتاين، «حق إسرائيل بالدفاع عن النفس»، بينما ممنوع على لبنان الدفاع عن نفسه ضدّ الاعتداءات والمجازر الاسرائيلية القائمة منذ مجرزة بلدة حلولا واحتلال القرى الجنوبية السبع واراضٍ لبنانية اخرى في اربعينيات القرن الماضي، ومزارع شبعا وكفر شوبا بعد حرب العام 1967 وحتى الآن.
في العودة إلى أصل المشكلة، لم يحمل الموقف الاميركي خلال الاشهر العشرة الاخيرة سوى التمنيات والدعوات لوقف اطلاق النار الموقت، حتى القرار الذي استصدرته الادارة الاميركية عن مجلس الأمن بهذا الخصوص بقي حبراً على ورق لأنّه لم يقترن بقوة تنفيذية، كما تفعل اميركا مع دول اخرى إذا ارادت كسرها او جرّها الى سياساتها. كما لم تحمل مساعي ومقترحات الموفدين الاميركيين الذين زاروا لبنان ودول المنطقة سوى همّ حماية اسرائيل وطلب مساعدتها في الخروج من وحول الحرب التدميرية التي أشعلتها وإعادة مستوطنيها الى منازلهم، عبر محاولة إلزام الأطراف الاخرى بوقف اطلاق النار، وبخاصة في جبهة الجنوب، بعدما أثبتت انّها أنهكت اسرائيل بقدر إنهاكها في غزة إن لم يكن اكثر. ولم تحمل الوفود الأميركية اي مطالب او ضغوط فعلية على اسرائيل.
وفي الوقائع ايضاً، ظهر انّه حيث يمكن لأميركا استخدام قوتها العسكرية للتخفيف عن إسرائيل فهي لا تُقصّر، كما فعلت في اليمن بالغارات الكبيرة والكثيرة على مناطق سيطرة الحوثيين، الذين دخلوا ايضاً كما لبنان معركة إسناد غزة. وها هي الآن ترسل بوارجها وحاملات طائراتها الى البحر الابيض المتوسط مقابل لبنان وسوريا وفلسطين المحتلة، وأعلنت صراحة انّها للدفاع عن اسرائيل ضدّ اي هجوم محتمل عليها، بعد اغتيال اسماعيل هنية وقصف الضاحية الجنوبية لاغتيال فؤاد شكر.
وسبق وظهر انّ الموفد الأميركي الملقّب «بالثعلب اليهودي» هوكشتاين، «أخذ لبنان الى البحر وأعاده عطشاناً»، سواء في ترسيم الحدود البحرية قبل اكثر من سنتين، والوعود الجوفاء بقرب استخراج النفط والغاز من المنطقة الاقتصادية اللبنانية الخالصة في البحر، وبدعم استجرار الكهرباء من الاردن والغاز من مصر، فقيّدت هذه العملية بشروط «قانون عقوبات قيصر»، فامتنعت الدول عن تنفيذ التعهد الاميركي وعن مواصلة التنقيب عن النفط والغاز، ولا يزال وزير الطاقة ينتظر تقرير شركة «توتال» الفرنسية عن سبب توقف الحفر، بينما مسموح لإسرائيل ان تنعم بكل مقدّرات وخيرات المناطق التي تحتلها في البحر والبر والجبال من الناقورة حتى أعالي جبل الشيخ.
كل هذا الفشل الاميركي في لجم اسرائيل عن عدوانها، وفي تحقيق ما يريح الدول المجاورة، كما تهدف لإراحة اسرائيل، بدا بوضوح انّه قرار سياسي بالتواطؤ على أعداء اسرائيل وتضليلهم بالكلام المعسول عن مساعي الحل، بينما المطلوب إطلاق يد اسرائيل علّها تستطيع كسر المقاومة الفلسطينية واللبنانية ليتمّ فرض التسوية السياسية على كل منطقة الشرق الاوسط بالطريقة وللأهداف التي تريدها، وأول هدف هو إبقاء يد اسرائيل هي العليا في المنطقة وإبقاء كل الدول إن امكن خاضعة للتوجّهات الاميركية. لكن النتيجة كانت ارتداد هذه السياسة سلباً على اهدافها، لأنّ الدعم الأعمى لإسرائيل أطال أمد الحرب وابقى نار المواجهات السياسية والعسكرية مشتعلة، ما يُعطّل المسعى الاميركي لفرض الحلول السياسية التي تريدها، إلّا اذا كانت تريد استمرار مشروع «الشرق الاوسط الجديد بالفوضى الخلاّقة».